18 - 06 - 2024

مدينتى الفاضلة | من وإلى مير ماجي مرجان

مدينتى الفاضلة | من وإلى مير ماجي مرجان

أنت مصري!! مادليلك!! هل أحصيت تفاصيل تَفًرُد مصريتك!! هل نبشت فابتهجت بجذور حاضنة لجيناتك وملامحك، أسرار مزاجك وميولك، شطحاتك وضعفاتك ومواطن قوتك!! هل تمهلت يوما لتراك.. وهل أحببتها!! هل حددت موقعك ووجهتك في الحياة، ورسمت طريقك بالألوان!

فعلتها ماجي مرجان المصرية شكلا وفكرا ورؤية وعاطفة، وارثة الحكمة، سافرت تدق باب حكايات جدودها الصعايدة جذور مصر، فوجدتهم يبدون أحياءا!! أبطال الحكايات استقبلوها بفرح كأفراح ميلاد يُشَيًد جسر اتصال روحي بينهما، مثمرا تسجيل حكاياتها هي معهم!! فحفظتهم، وجودهم وبقاياهم في فيلم تسجيلي نابض بجهاد المنسيين لهزيمة الفقر!! عاشت ماضيهم وصورت حاضرهم، وتنبأت بما هو آت، كأنها ايزيس تبحر في نهر الحياة والتاريخ لجمع أشلاء أوزوريس.. الفيلم تسجيل لشروق وغروب قرية مير في 15 دقيقة تغمرنا وتفيض بإنسانيتهم!! سافرت تهفو أن تلمح ينابيع ضياء جدودها، فوجدت الخبيئة الانسانية النقية محفوظة، في قرية هي نقطة غائمة على جوجل!! أزورهم معها فيتلبسوني مثلها!! أكرر العرض ولا أرتوى، سكننونى وأزعجوني، كيف تركنا شبابهم ينتحرون، والخواء يلتهم خصوبة القرية!! وأتحير، هل أرثي حالهم!! أثور نيابة عنهم!! أم أكتفي بنعمة الانتماء كمصرية لمن وصفتهم الكتب المقدسة ب"الصديقين، وأنقياء القلب"!!

أبطال حواديت جدتها عزموها في أفراحهم الجماعية البسيطة.. فلا فرح ولا حزن خاص في القرية الشفافة!! أبواب البيوت مفتوحة، التليفزيون شغال ليل نهار يرسل أحلاما وأوهاما للجالسين على عتباتها، ولا يستقبل!! القلوب متشابهه والحلم واحد، هجرة الفقر!!

تدق ماجي الأبواب وعدساتها مفتوحة كشافات لنا، تنفتح البيوت والنفوس لريحة الحبايب، يفتح عم عبد التواب حريف الجوزة المتسلطة الخاينة، فقد حرقت عمره دون الفقر!! لازمنا هو وزوجته وأطفاله، روماني وكيرلس ومريم وماريان، ذقنا معهم حلاوة الشعبطة فوق الميكروباص، وجرأة مواويل الصعايدة النافذة.. اشتهينا الطعمية السخنة، وغموس اللمة حول الطبلية.. نصل لعم سمير القمص، موسوعة ومؤرخ  مير الفخور بنسبه  لعائلة توارثت الكهنوت 400 سنة، انتزعوه منهم رسميا لكنه وثق استحقاقه في صور أجداده على الحائط!! هو قروى صعيدى خلبوص، يمتنع أدبا عن إدانتهم، وحرصا على اولاده من البوح المباشر باسمهم.. يلمع نضارة الكتابة الجديدة، ويقرأ لنا وثيقة أحوال سكان القرية واحد واحد، من الميلاد للنهاية أيا كانت!! فتبدو "مير" شاهد عصور أمين على الكثير، مثل التربية والتعليم قبل الثورة في عموم مصر!! فقد سلحته شهادته الابتدائية بعلم وأدب ورؤية، وارتباط بالأرض، وفهم مستنير للدين، وإيمان قويم ظل حصنهم ودرعهم لمواجهة الفقر!! عم سمير دوًن يوميات القرية، وأصولها وآثارها ببلاغة وخط جميل، مسجلا كل المواليد والوفيات، أسياد وأجراء.. ومؤرخا لأصحاب العلم والفضل زمان، عائلات لوزة والخناجرة، والجرايسة وبهمان الذين باعوا أرضهم قبل الثورة لبناء مستشفى خيرى!! راصدا تصاعد انتحار شباب نحرهم الفقر.. ندخل بيوت أم مينا وام يوسف، ننقش كعك العيد.. ومدرسة أم مايكل لتصوير حفل ترفيهي لتلامذة مكدسين في ثلاثة امتار هي حوش المدرسة!!

"مير" حالة أسطورية!! قرية شهداء أحياء لم تلمس أقدامهم العاصمة!! الأغلبية شيوخ أو زوجات يرفضن عودة الأب من الكويت، حرصا على اللقمة والهدمة وثمن الدروس.. أبناء يحملون اسم الأب فقط!! ونسوة خلعن جلباب خدمة بيت وغيط الأكابر الذين رحلوا، وخرجن للتدريس والتجارة وتسليح الأبناء بتعليم هو باسبور الهجرة!! جفت الغيطان وهاجرت طيورها!!

تعود ماجي بعد 12 سنة لتسجل ما تنبأ به واقع القرية!! صمتت الشوارع الضيقة!! خرست التليفزيونات، ناحت المواويل لاختفاء الأطفال!! أوصدت القرية أبوابها بأقفال لهروب روحها دون وعد  بالعودة!! وجدنا عم متولي وزوجته، لم يعد هو نفسه أبو روماني الطفل اللي شرب الجوزة في اللفة، لأنه مات شابا، هرب من الفقر بالسم كأقرانه!! أخته بائعة في صيدلية لجمع مصاريف الدراسة بجامعة أسيوط للهجرة إلى باريس.. "أم يوسف" كما هي، جالسة على كنبتها البلدي في بيتها البدائي، سافرت من نيويورك لولايات هي أرياف جميلة جرداء، بتذكرة غربة ابنها واشتياقه لغفرانها عن غيابه في  شيخوختها.. لم نجد بالقرية إلا شهود الماضى، ذاكرتهم تغيثهم بأحلى الذكريات، العزف مع تراتيل الكنيسة يوم الأحد، الأعياد والأفراح الجماعية، بهجة موسم الكشك، غذاء الباشا والفقير.

مات عم سمير، وورث إبنه التوثيق، يؤديه دون شغف!! فنسترجع سخريته من فم تسللت أسنانه، وروح مقاتلة "الفقري فقري ولو اتولد في مير، لو صح زرعه لأكله الطير"!!

هذا فيلم مدته أعمار، تاريخ، حيوات وضحكات وأحلام.. طفولة وشباب هاجر أو انتحر!! وانكسار كهولة آباء في انتظار مهاجر لن يعود، ولقاء للصابرين في ملكوت السموات.. بانوراما " من وإلى مير"، هي دعوة للإبصار.. ربما!!  
-------------------------
بقلم: منى ثابت
من المشهد الأسبوعية

مقالات اخرى للكاتب

 مدينتي الفاضلة | محاكمة القرن.. دين شنوده إيه؟!





اعلان